الاحتراق الوظيفي: اضطراب نفسي أم انعكاس لخلل؟

  • بتاريخ : يونيو 14, 2025 - 11:17 م
  • الزيارات : 141
  • بقلم: سعاد السبع:

    في دهاليز الحياة المهنية المعاصرة، حيث تتقاطع متطلبات الإنتاج مع معايير الكفاءة، تبرز ظاهرة “الاحتراق الوظيفي” بوصفها أزمة صامتة تنهش الذات البشرية من الداخل، وتفتك بالصحة النفسية للموظف على مهل. إنّها حالة لا تقلّ خطورة عن الاكتئاب المزمن، ولا يمكن فصلها عن المناخ السوسيو-مهني الذي يؤطرها، كما لا يمكن البنية المؤسساتية؟؟؟ التي تُكرّس ثقافة الاستنزاف والتهميش.

    أولا: المفهوم النفسي للاحتراق الوظيفي
    يشير مصطلح “الاحتراق الوظيفي” (Burnout) إلى حالة من الإنهاك النفسي والعقلي والجسدي، ناجمة عن التعرّض المزمن لضغوط العمل، وفق ما حددته الباحثة كريستينا ماسلاش (Maslach)، إحدى أبرز من نظّروا لهذا المفهوم. ويتجلّى هذا الاضطراب في ثلاثية مميّزة:
    ـ الإنهاك العاطفي؛
    ـ الاغتراب المهني (أو التباعد الانفعالي عن العمل)؛
    ـ انخفاض الشعور بالكفاءة الذاتية.

    وقد أدرجت منظمة الصحة العالمية (WHO) هذا الاضطراب ضمن التصنيف الدولي للأمراض (ICD-11) سنة 2019، بوصفه متلازمة مرتبطة حصريًا بسياق العمل، مما يمنحه شرعية طبية ونفسية، تفرض التعامل معه بجدّية وحزم.

    ثانيا: الأسباب النفسية والسوسيولوجية
    رغم تعدد أسباب الاحتراق الوظيفي، فإن دراسات علم النفس التنظيمي تتفق على مركزية بعض العوامل البنيوية، أبرزها:

    1. المناخ السام في بيئة العمل
    يُعدّ المناخ المؤسسي المشحون بالتوتر، وانعدام الثقة، وغياب الاعتراف المهني، من أبرز المحفّزات على الاحتراق. فقد أظهرت دراسة أجرتها جامعة كاليفورنيا أن الموظفين الذين يعملون في بيئات يسودها الاستبداد الإداري والنقد السلبي المتكرر، ترتفع لديهم مستويات الكورتيزول (هرمون التوتر)، بنسبة تصل إلى 50% مقارنةً بنظرائهم في بيئات أكثر دعمًا وتقديرا.

    2. العمل خارج الأوقات القانونية
    إن العمل المستمر خارج الزمن المسموح به قانونيا، دون فترات راحة كافية، يؤثر سلبا على التوازن النفس – جسدي للفرد. فالعقل البشري، كما أثبتت نظريات علم النفس العصبي، يحتاج إلى فترات من “الفراغ الذهني”، لاستعادة قدرته على التركيز والإبداع. أما الاستنزاف المتواصل، فيُفضي إلى تبلد عاطفي، وانفصال نفسي عن المهام اليومية.

    3. ضغوط الأداء والتقييم الجائر
    ثقافة المقارنة الدائمة، واستهداف الأرقام، والارتباط المفرط بمؤشرات الإنتاج، تُحوّل الإنسان إلى آلة مؤشرات، وتُلغي جوانب الإبداع، والانتماء، والمعنى، مما يؤدي إلى حالة من “الخواء الوجودي”، الذي يُعجّل بانهيار الصحة النفسية.

    ثالثا: الآثار النفسية والاجتماعية للاحتراق
    تتنوع تجليات الاحتراق الوظيفي، وتتسع دوائره لتشمل الفرد والمؤسسة والمجتمع. ومن أبرز آثاره النفسية:
    ـ القلق المزمن واضطرابات النوم؛
    ـ العزلة الاجتماعية وتراجع الدافعية؛
    ـ ضعف القدرة على التركيز واتخاذ القرار؛
    ـ ظهور أعراض جسدية غير مبررة عضويا (somatization).

    أما على مستوى المؤسسة، فيُترجم الاحتراق في ارتفاع معدلات الغياب، وتدني الإنتاجية، وزيادة التوتر بين الفرق، بل وحتى فقدان الكفاءات المؤهلة بسبب “الاستقالة الصامتة”، أو المغادرة الفعلية.

    رابعا: نحو استراتيجيات للوقاية والتدخل
    لا يمكن معالجة الاحتراق الوظيفي من زاوية فردية فقط، بل يجب أن ينخرط فيه البُعدان: الشخصي والتنظيمي، من خلال مقاربة شمولية:
    – إعادة هيكلة ثقافة العمل؛
    بناء بيئة مؤسساتية تُعلي من قيم التقدير، وتُحفّز المشاركة، وتمنح الموظف شعورا بالجدوى والانتماء؛
    – إرساء الحق في الراحة
    باحترام زمن العمل، وضمان التوازن بين الحياة المهنية والشخصية، وتفعيل آليات “الحق في الانفصال الرقمي”، كما أصبح معمولا به في عدة بلدان أوروبية؛
    – تكوين القيادات المهنية
    وتدريب الرؤساء والمديرين على مبادئ القيادة الإنسانية (leadership bienveillante)، والتدبير التشاركي، وتفادي النزعة السلطوية؛
    – الدعم النفسي داخل المؤسسات, وإحداث خلايا استماع وتوجيه نفسي داخل أماكن العمل، وتوفير استشارات دورية للعاملين لتفريغ الضغوط قبل أن تتفاقم.

    الاحتراق الوظيفي ليس فقط عرضا نفسانيا معزولا، بل هو مرآة تعكس أزمة أعمق في نماذج العمل الحالية. وإذا لم تُقارب هذه الظاهرة بما تستحقه من اهتمام علمي ومؤسساتي، فإننا نُخاطر بإهدار أثمن رأسمال تملكه المؤسسات: الإنسان.