وداعا بحجم الوطن : ناصر الزفزافي يدفن الألم وينطق بالانتماء

  • بتاريخ : سبتمبر 5, 2025 - 6:42 م
  • الزيارات : 213
  • بقلم: مريم مستور:

    _ نحن اليوم أمام لحظة إنسانية مؤثرة، تختلط فيها المشاعر الإنسانية بالرسائل السياسية.
    رحل أحمد الزفزافي، والد ناصر، تاركاً خلفه قصة ممتدة من الألم، لكنها تحمل بين طياتها أيضًا بارقة أمل في مصالحة طال انتظارها.

    خرج ناصر الزفزافي، قائد حراك الريف، للحظات نادرة من زنزانته، مفجوعًا بوفاة والده، ليودّعه الوداع الأخير، ويلقي كلمة مرتجلة أمام حشود غفيرة جاءت لمشاركة العائلة هذا المصاب. كلمة قصيرة، لكنها أبلغ من خطب الساسة، حمَلت معاني الوحدة والانتماء، وأذابت جزءًا من الجليد الذي تراكم على هذا الملف الشائك.

    _وُلد ناصر الزفزافي يوم 4 نوفمبر 1979 في الحسيمة، قلب منطقة الريف التي تحمل إرثًا تاريخيًا للمقاومة ضد الاستعمار الإسباني بقيادة محمد بن عبد الكريم الخطابي.
    نشأ في أسرة متواضعة، وسط معاناة المنطقة من التهميش الاقتصادي والاجتماعي. عرف عنه منذ شبابه جرأته في التعبير، وحبه للعدالة، ورفضه للظلم.

    في 28 أكتوبر 2016، اهتزت الحسيمة على وقع حادث مأساوي تمثل في مقتل بائع السمك محسن فكري سحقًا داخل شاحنة نفايات أثناء محاولته إنقاذ بضاعته المصادرة.
    كانت تلك الحادثة شرارة الغضب الشعبي، فانطلقت مظاهرات سلمية، قادها ناصر بخطابات قوية تطالب بـ:

    مستشفى جامعي مجهز.

    جامعة بالمنطقة.

    توفير فرص العمل للشباب.

    محاربة الفساد وتحقيق العدالة الاجتماعية.

    ولمدة أشهر، ظل الحراك سلميًا، يجمع آلاف المواطنين، قبل أن تتصاعد التوترات مع السلطات.

    في 29 مايو 2017، تم اعتقال ناصر الزفزافي بعد حادثة “منبر الجمعة”، حين صعد إلى منبر أحد المساجد منتقدًا استغلال خطبة الجمعة للتحريض ضد الحراك.
    وبعد محاكمة مثيرة للجدل، قضت محكمة الاستئناف في الدار البيضاء سنة 2018 بسجنه 20 سنة نافذة بتهم “المس بأمن الدولة” و”تكوين عصابة للمس بالأمن الداخلي”.

    حكم اعتبره الكثيرون قاسيًا، وأثار احتجاجات واسعة، حتى أن مجلس حقوق الإنسان في جنيف صنّفه لاحقًا بأنه اعتقال تعسفي.

    فبدل أن ينهار خلف القضبان، حوّل ناصر الزفزافي محنته إلى فرصة للنمو الفكري.

    نجح في الحصول على شهادة البكالوريا أثناء سجنه، متحديًا قيود السجن.

    واصل دراسته الجامعية عن بُعد، حتى حصل على الإجازة في تخصص العلوم السياسية، ليُثبت أن الفكر لا يُقيّد حتى وإن قُيّدت الأجساد.
    هذا المسار الدراسي كان بمثابة رسالة أمل للعديد من الشباب، ودليل على صموده وصبره.

    وفي صيف 2025، تعرض أحمد الزفزافي، والد ناصر، لوعكة صحية خطيرة انتهت بوفاته.
    الخبر كان صدمة قوية لناصر وعائلته، لكنه فتح بابًا لإنسانية الدولة، إذ سمحت السلطات لناصر بحضور جنازة والده، والخروج للحظات من السجن لتوديع من كان سندًا وداعمًا له.

    لم يتوقف الأمر عند ذلك، بل سُمح له أيضًا بإلقاء كلمة قصيرة أمام المشيعين.
    كلمة مرتجلة، لكنها حملت رسائل عميقة، إذ خاطب فيها المغاربة جميعًا، مؤكدًا أنه:

    مغربي أولاً، وريفي ثقافيًا ولغويًا فقط، رافضًا تهمة الانفصال.

    يعتبر الريف جزءًا لا يتجزأ من المغرب، وأن أي محاولات خارجية، بما فيها الجزائر، لاستغلال مظلمة الحراك، لا مكان لها.

    عبر عن استعداده للتضحية بدمه من أجل الدفاع عن وحدة التراب المغربي، خاصة قضية الصحراء المغربية.

    بهذه الكلمات، بعث ناصر رسالة وطنية صادقة، أذابت الكثير من الشبهات، وقدّمت الدولة والمجتمع فرصة لإغلاق صفحة من التوتر.

    ما قامت به الدولة كان لافتًا؛ فقد تعاملت المندوبية العامة للسجون والسلطات العمومية بـ”إنسانية وذكاء”، عبر تمكين ناصر من توديع والده أمام الملأ، ما امتص جزءًا من الغضب الشعبي.
    كما أن كلمته أعطت انطباعًا بأنه أصبح أكثر نضجًا ووعيًا، وأن هواجس الدولة حول تحوله إلى رمز فوضوي ربما لم تعد مبررة.

    _بعد تسع سنوات من السجن، حان وقت التفكير في طي صفحة حراك الريف، عبر عفو ملكي شامل، لعدة أسباب:

    1. الزمن الكافي للعقوبة: تسع سنوات من الحرمان، والمعاناة النفسية والجسدية، كافية لإعادة تقييم التجربة.

    2. تغير ناصر ورفاقه: السجن والتجربة جعلتهم أكثر وعيًا ونضجًا، بعيدين عن أي تهديد للوحدة الوطنية.

    3. حاجة البلاد إلى مصالحة: المغرب يواجه تحديات اجتماعية وسياسية، ولا بد من “هواء جديد” يعزز حقوق الإنسان، ويعيد الثقة بين المواطن والدولة.

    فرحيل أحمد الزفزافي كان لحظة وداع إنسانية وسياسية، حملت في طياتها دعوة صريحة للمصالحة.
    ناصر، الذي خرج للحظات من “قبر الحياة” كما وصف سجنه، خاطب المغاربة من قلبه، رافضًا أي انقسام، ومعلنًا انتماءه للوطن بكل وضوح.
    أما الدولة، فقد ردت بخطوة ذكية، منحت الأمل في أن يكون هذا الوداع بداية إغلاق ملف حراك الريف، وإطلاق مرحلة جديدة من الإنصاف والكرامة.

    اليوم، يقف المغرب أمام فرصة تاريخية:
    إما أن يظل أسير الماضي، أو أن يحوّل ألم الفقد إلى أمل في المصالحة الوطنية.