الشاعرة والقاصة فريدة عدنان تكتب : إيزورا حكاية وطن..

  • بتاريخ : أكتوبر 5, 2025 - 12:22 ص
  • الزيارات : 21
  • كانت الربوة عالية بما يكفي لتطلّ على الطريق، لكنها لم تكن أعلى من قلبها الصغير الذي ظلّ معلّقًا بظلّ رجل. تجلس إيزورا وحيدة هناك كل مساء، تحدّق في العتمة، وتصغي لصمت الأرض كأنها تستعطف التراب: “متى يعود أبي؟”

    لم تعرف إيزورا من طفولتها سوى الانتظار؛ كان أطفال الحيّ يعدّون ألعابهم، بينما كانت هي تعدّ خطواته البعيدة. كانوا يحلمون بعرائس من قماش وألوان من شمع، أما هي فكان حلمها بسيطًا حدّ الوجع: أن تجلس فوق ركبة أبيها صباحًا على مائدة الإفطار.

    حين يجيء أبوها متعبًا، متأخرًا، مثقلاً بغبار الغياب، تراه كما لو أنه يجيء من أسطورة. تركض نحوه، تتشبّث بذراعه، فيبادلها بابتسامة تتحدّى الإنهاك. تضع رأسها الصغير على كتفيه وتغفو على وعودٍ تشبه القناديل تنير عتمتها: “غدًا سيرافقني أبي إلى المدرسة ويحمل عني حقيبتي. غدًا سأتفاخر به أمام زملائي وهو يرتدي زيّ حماة الوطن.” كان ذلك الزيّ بالنسبة لـ إيزورا يشي ببطولاتٍ خفيّة، كالأساطير.

    — “لماذا لا تبقى معنا يا أبي؟”

    سؤال كانت تردّده على مسامعه في كل مرة يهمّ فيها بالرحيل. كان ينحني إليها، وعيناه عميقتان كجرحٍ لا يُرى: — “لأن هناك وطنًا لا ينام إن نمتم، وأنا يا ‘إيزورا’ أحرس أحلامكم من بعيد. تذكّري دائمًا أنكِ أنتِ البياض الذي يبدّد عتمة ليلي الحالك، وهذا سرّ اسمكِ الأمازيغي الجميل.”

    لم تكن إيزورا تستوعب كلماته، لكن قلبها الصغير آمن أن أباها بطل. تكرّر الغياب في أيامها حتى صار هو الحضور الوحيد.

    “لقد رحلت يا أبي إلى الأبد، وبقي صوتك نداءً محفورًا في ذاكرتي الصاخبة. حين كبُرت، أدركت أن كلماتك كانت رموزًا لا تُقرأ إلا بوعي النضج. فهمت أن الوطن لم يكن بالنسبة لك أرضًا أو حدودًا جغرافية فحسب، بل وجوهًا صغيرة تبتسم مطمئنة تحت سقف بيت، وأنك كتبت تاريخه بخطواتٍ متعبة ودمٍ مؤجّل.”

    هكذا حدّثت ‘إيزورا’ نفسها ذات مساءٍ شبيهٍ بالبدايات.

    لم تنتظر هذه المرة فوق ربوة الصمت طويلًا، ولم تبحث في الأفق عن نجمةٍ بعيدة. أغمضت عينيها، وتمتمت كمن يُصلّي: — “أبي… الوطن أنت، الوطن أنا، الوطن كل من يترك أثره في ليلٍ طويل ليضيء قلوب الآخرين.”